الأنفاس الأخيرة - د. علي محمد

حين أطلقو الرصاص على رأسينا
لم أكن قد مت بعد
و ما بين غبش الدموع و الدم
رأيتهم يقتلعون أحشاءك
و يبعثرونها على البلاط كألعاب أطفال صغار
 أطفال ماتوا قبل أن يلعبوا
و حين كانت السكين تمزق جسدي
و العيون المتشفية تشهق بالفرحة القاتمة


كنت أرنو إليك
و أشاهد بقايا جثتك تخفق كالراية
و عيناك الخائبتان
تنزفان بقايا الصور التي أحببتها
وملامح الوجوه التي قبلتها
يا صديقي..
أية نهاية انتظرناها غير هذه؟
غير اقتلاع خلايا الدماغ
و بعثرتها في زوايا الغرف المغلقة؟

حين كانت الشمس تلسع وجهينا
و نحن نسير في الشوارع الواسعة
كنا نحلم بقطار من الحبق
يعطر المدن و المسارح
و بلاد بعيدة و باردة
تثلج الأحزان في القلوب
و كنت تغني دائما
للحقول و القرى السعيدة
و تبكي دائما
و أنت تلعق آثار الجراح في قلبك
كالأسد ذو المخالب المكسورة
لم تكن ترقص تحت المطر
كنت تقف و الدموع في عينيك
و تمسح شعرك المبلل
و حاجبيك الأشهبين
ثم تهرول كحصان متعب
و أنت تفتح ذراعيك النحيلتين
كأنك تجمع القطرات الصغيرة
لتسقي بها الحقول التي هجرتها الغيوم
لكنك نسيت أيها القروي البائس
أن الحقول لن تنبت قمحا و زهورا
بل ستنبت أطفالا جياعا
يرتمون على حواف المدن
و يشهقون بالحمى
هؤلاء أطفالنا يا صديقي
و الأبنية التي تمددت شرفاتها
ستحجب عن عيونهم قطرات المطر
التي أورثتهم إياها

كانت الغرف تشبه المغاور
و الحراس يرتدون جلود الأطفال
و عيونهم المحملقة برعب لحظة الموت
لكنك لم تخف كما خفت أنا
ألقونا على البلاط البارد
و من جسدينا تنبت بقايا الغابات المحروقة
لم يطفئوا أعقاب السجائر على جلودنا
لكنهم صنعوا أقفالا للرؤوس
ثبتوها فوق الرقبة و عظام الجمجمة
و مشطوا شعورنا بمفاتيح السجون
و جثث العصافير التي كانت تسافر شرقا
كنت أراك
كيف تحولت ذراعك إلى أقحوانة سوداء
و كيف تناهت أنفاسك إلى صفير قاتم

-       خذني أولا أيها الموت!
-       لا....
          خذني أنا أولا!!
ما الفارق يا صديقي؟
و ما الذي ستفعله بضع دقائق إضافية في الحياة
ما دامت السنوات قد ذهبت هباء
و أحلى أيام العمر
مقابل دفاتر ممزقة
و أنين خافت؟
خذنا إذا أيها الموت
ولا تترك للجلاد فرصة أخيرة للتشفي
لنزع الأظافر و شعر الذقون
و كنس بقايا القصائد عن الشفاه..

و هكذا سقطنا
لا شيء يدفئ صدورنا الممزقة
إلا الدم...
لا حبيبة
ولا وطن...


إلى سائر إبراهيم - الخرطوم 2003

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مسدار أبو السره لليانكى - محمد طه القدال