دمشق وريم بنا تكسران الحصار - د. علي محمد

ليس في كل ليلة من العمر يمكن لك أن تنال شرف دمعة خالية من الأنانية، ولا في كل ليلة من العمر يتاح لك أن تكون جزءاً من أعمار الكثيرين بقربك، ممن جمعك بهم رابط شفاف وبسيط، بشفافية الألم، أو الحب. 

إلا أن من كان في باب توما ليلة التاسع من آذار حظي ولا شك ببعض ذلك، كانت تلك من الليالي النادرة التي تكشف دمشق فيها عن روحها الحقيقية، تزيل حجبها، وتكشف صدرها الشاب لكل العجائز من أمثالنا، وقد أتعبتنا الحياة وما أتعبتها، وأشاخنا البعد وما أشاخها. هي ليلة نادرة كانت دمشق فيها في أوج دَمْشَقَتِها، وكانت عروبتها فيها في ريعان ستينياتها، من قال أن الستينيات من القرن الفائت هي أوج العروبة؟ لو جلس التاريخ في مقهى غزل في ليلة التاسع من آذار، لغير في دفاتره الكثير!

وليس السر ببعيد عن الفهم، فدمشق التي فاضت علينا بعطرها ما فاضت إلا للقاء حبيب قديم، ففي هذه الليلة، طارت قطعة من فلسطين وحطت في باب توما، قطعة أصيلة من فلسطين. فعبر الإنترنت، ومن منزلها الناصري الذي زها هو الآخر بفلسطينيته، غنت ريم بنا لشباب دمشق، وعبر الشاشة الصغيرة، ومكبرات الصوت المتواضعة في مقهى غزل الدمشقي، كانت ريم بنا تكهرب أرواحنا واحداً فواحداً، وتتيح لنا أن نحب كما لم نحب منذ زمن، وأن نبكي كما لم يسمعنا أحد نبكي منذ زمن، وأن ننتصر لوهلة على كل الحدود، والاتفاقيات الموقعة وغير الموقعة، والحصار، والإعلام، وجفاف بردى، وقوانين العقوبات، والقرارات الدولية، وأنفسنا!
وبمنتهى أنانيتنا، أنانية المحب، غنت ريم حزنها فأفرحتنا، وغنت ألمها فأزالت أوجاعنا، وغنت أطفالها القتلى ليزهو الأطفال الأحياء في أرواحنا، وغنت جدتها العرجاء، وعودتها اللاعرجاء إلى الأزاهر التي ستحفظ لها صوتها ورائحتها وشكلها، لنخجل قليلاً من يومياتنا، وابتذال الحياة التي نجحت لوهلة أن تجرفنا.
في إحدى الليالي الحارة من صيف العام 2004، ومن على شرفة منزلي في مدينة الخرطوم، كنت وأصدقائي نستمع إلى تسجيل جميل لمي نصر في حفلة استضافها فيها شباب اللاذقية، كان أصدقائي السودانيون يستمعون، ويذهلون كيف يقف الجميع ليصفقوا بمجرد ورود كلمة من مثل ميسلون، أو النبطية، أو الزيتون! كنت في أوج فخري في ذلك اليوم، سكِراً بوطني في مدينة تحرّم السكر، قلت لأصدقائي أن لا أحد سيستطيع يوماً أن يقتل العروبة في سوريا!
شكراً ريم بنا، وشكراً دمشق، على لحظات فخر جديدة حقنتني بالحياة، ستنجو روحي إذاً لبعض سنوات قادمة، وسأنتظر سيدة عظيمة أخرى تعيد لي ألق هذه الليلة الدمشقية العظيمة، سيدة بحجم ريم بنا ودمشق، تأتيني في وقتها، كما أتيتن في وقتكن ليلة الأمس، لتذكرني "بحالي"!

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مسدار أبو السره لليانكى - محمد طه القدال