سبع ليال في الخرطوم - د. علي محمد

أين يسكن الحقد حقيقة؟
و لماذا يجب أن يكون الشعور الإنساني الوحيد الذي يغلب دائماً؟
لا تحاسبوني على كلمة الإنساني، ألا تعتقدون أن الحقد شعور إنساني؟ دعونا جميعا لا ننسى أن كلمة إنساني مشتقة من الإنسان، وأن غروراً "إنسانياً"، أو عمىً، هو ما جعلها تحمل معنى نقياً وغير قابل للدنس.
   نعم، ربما يبدو هذا المبدأ غريباً قليلاً، لكنه لن يكون كذلك لوقت طويل، من منكم استفاق ذات صباح ليجد أن كل شيء في حياته، كل شيء، قد تشوه إلى الأبد؟



أنا حصلت على هذا الشرف، قال الوطني في فيلم ميل غيبسون الشهير: أنا والد، وليس لدي رفاهية المبادئ!
و أنا لم تعد لدي، أي مبدأ يمكن أن يغفر لكم موت إنسان؟ أي حقيقة أو كذبة أو خرافة يمكن أن تبرر لكم الحقد؟
لا شيء طبعاً، كما أن لا شيء يمكنه أن يجعلني، أو يجعل أي منا نحن، سكان هذه المدينة المصابة بالكراهية، ينسى!

كنت موجوداً يوم عاد جون غارانغ إلى الخرطوم، أريد أن اقول لكم، وصدقوني، أن كمية الفرح الذي شاهدته في وجوههم يومذاك لا يمكن أن تقاس، وأن شيئا حميماً جداً، شيئاً يقف ما بين الأمل، والثقة، والنصر، بدأ ينمو في داخلي يومئذ، بلطف جداً، كجنين طال انتظاره، كحياة! أو كقوة العدالة، التي لم تكن يوما قوية ابدا في مجتمعنا "الإنساني"!
أذكر جيداً في ذلك اليوم، الذي ليس بعيداً أبدا. أذكر سماع الناس يتحدثون عن سبب سعادتهم، وكم ستفاجؤون لو تسمعون!
بصراحة جداً، أنتم يا سكان هذا العالم تثيرون قرفي، من أكبركم إلى أصغركم، ولا أعتقد أنني أفشي سراً إذ أقول ذلك: أنتم مقرفون جداً، واهتماماتكم سطحية جداً وغبية. لا تسامحوني على هذا الشعور، أرجوكم، فأنا سعيد بأنني "حاقد" عليكم، سعيد باكتشافي أنني – أنا أيضاً – قادر على هذا الترف المسمى الحقد!
لكنكم يا أصدقائي المقرفين، تتكلمون طوال النهار، وتشتمون بعضكم بعضا، وتتحدثون عن المبادئ والحياة وو و....ولكن، من منكم عرف الجوع يوماً؟
(أنا هنا لا أتكلم عن الجوع إلى الحب، أو الحرية، أو راحة النفس، أنا أتكلم عن الجوع إلى الرغيف، والعطش إلى الماء).
 لا أحد طبعاً، أنا أيضاً لم أعرفه إلا مرة واحدة قبل بضع سنوات، ومنذ أيام مع حظر التجول وإقفال المتاجر في هذه المدينة.
(يومها فقط عرفت لماذا غنت عقد الجلاد: دي المدينة وديل إيديا.. عرفت ما هي العلاقة التي تربط المدينة بالأيدي!)
و من منكم رأى من يموت أمامه مراراً من دون أي سبب؟ أنا شهدته عدة مرات بسبب ختان الأنثى، ومرة بسبب حادث مروري، ومنذ أيام وأنا أراه في كل مكان، لسبب لا يمكن لأحد أن يشرحه.
أما أصدقائي، ومعظمهم لا يعرفونني طبعاً، فقد عرفوا الاثنين، عرفوا الجوع في بطونهم وفي صراخ أطفالهم، وعرفوا الموت لكل من أحبوا، وضاجعوا، وعاشوا بسعادة مع، هل ترون إلى هذه الكلمة؟ سعادة؟

يوم عاد جون غارانغ إلى الخرطوم، وكنت هناك، كان المتسابقون للوصول إلى المنصة كثيرون، امرأة عجوز لم تستطع إكمال اقتحام الزحام، وقفت ورائي تماماً توصي ولدها الماضي في مغامرة الوصول إلى المنصة:
يا وليم، قول ليهو إهنا كويسين وكلو تمام، بس دايرين مويا،
هل ترغبون في ترجمة؟ قالت العجوز:
يا وليم، أخبر غارانغ أننا بخير وأحوالنا تمام، نحتاج فقط إلى المياه!

(ألا يبكيكم أن تعطش عجوز في مدينة تجتازها أضخم ثلاثة أنهار في العالم؟)

طبعا لا أستطيع أن أحكم على الرجل، أختلف معه في السياسة والوطنية، ولا أحبه مع أن أصدقائي هؤلاء أحبوه، وكان كل ما أخشاه أن يتحول من ضمير لهم إلى بيروقراطي آخر، لكن الزمن لم يتح له فرصة ذلك، أليس هذا رائعا؟
قبل أن يموت بعدة أيام، كان يتحدث إلى التلفزيون الوطني، سأله المذيع عن خططه الإقتصادية والمالية لإدارة الجنوب، قال له: ياخي الناس ديل دايرين موية شراب، ومدرسة، دة شنو إقتصادية؟

ثم مات!

ثم فتحت أبواب جهنم في المدينة، وفي كامل البلد، هو هاجس كان قد انتابني منذ زمن طويل طويل، أنني سأكتب يوماً عن الموت في الطرقات، وعن الخوف، وعن فقدان الأمل بأي شيء.
كنت قد تخيلت أسباباً أخرى طبعا، من كان يخطر بباله يوماً أن جون غارانغ سيصبح نائباً لرئيس الجمهورية ثم يموت؟
لكن هاجسي قد تحقق! ها هو الموت في الشوارع، وها هو الرعب، وها هو الإحساس بالنهاية! إنه حقيقةً أشد خلعا للقلب مما تصورت!

أكتب لكم الآن من غرفتي، أنا جائع، لم أجرؤ بالأمس على النزول، وجرؤت اليوم بعد إعلان نزول الدبابات إلى الشوارع، لكنني لم أجد ما أشتريه لآكله!
لماذا حدث كل هذا؟ ما الذي أشعل كل هذا الموت؟ هل كان هو موت الأمل الذي شهدته في عيونهم عصر ذلك اليوم؟ أم هو الخوف من ان المستقبل لم يعد قريباً، وأن الماضي الذي تعبو منه كما تعب مايكل كولنز سيبقى معلقا برقابهم إلى الأبد؟

فلتسمحو لي إذاً، من كان منكم بلا لحظة رعبٍ واحدة في حياته فللا يرجمني بحجر!
اسمحوا لي إذا، لأن آلامكم صغيرة جدا مقارنة بما رأيت وأحسست، إنني أنظر إليكم من عليائي وأتف عليكم كما فعل زوربا، أنا هو "الإنسان"، وأي شخص لم يكن في الخرطوم صبيحة الأول من آب، لا يستحق شرف الألم!

الجزء الثاني:
يبدو الكلام هنا سخيفاً طبعاً، وهو كذلك، فقط أنه بعد مرور يوم على الأحداث وقبل اندلاع الموجة الثانية التي أحرقت فيها المساجد والقرائين، تنفست المدينة لساعتين، واستطاعت حبيبتي أن تخرج من منزلها، ولكنها بدل أن تأتي إلي، ذهبت للاطمئنان على شخص آخر!
هنا نزلت من عليائي، حقاً، إن هذا الكلام سخيف، لكن أيام الخوف هي أكثر الأيام قدرة على كشف الدواخل!

أكتب لكم الآن في الواحدة بعد منتصف الليل، انفصلنا أنا وحبيبتي عن بعضنا البعض، ثم أمطرت!

لا أدري إن كانت قد أمطرت لتطفئ الحرائق في العربات والمنازل والمحال، أم لتطفئ حزني، أم.....

لكنها أمطرت!
الخرطوم، آب 2005

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مسدار أبو السره لليانكى - محمد طه القدال